Thursday, October 11, 2007

عمّال النسيج يحققون مطالبهم والنخب تعيد إنتاج أسئلتها العقيمة



عمّال النسيج يحققون مطالبهم والنخب تعيد إنتاج أسئلتها العقيمة ... الاحتجاجات في مصر سرعان ما تخمد ودعوات الإصلاح الأميركية «انتهازية»







كتب: عمار علي حسن




نقلا عن جريدة الحياة




10 أكتوبر 2007







في الوقت الذي كان عمال النسيج في مدينة المحلّة المصرية يسجلون انتصاراً ملموساً بدفع السلطة إلى الاستجابة إلى أكثر مطالبهم، كانت النخبة الفكرية والسياسية منشغلة بإعادة إنتاج أسئلتها العقيمة حول الأسباب والخلفيات التي أدت إلى نزع فتيل ثلاث سنوات كاملة من الاحتجاج المتواصل، الذي شاركت فيه التيارات السياسية، وامتد ليشمل فئة ذات وضع خاص في النظام السياسي المصري وهي القضاة، وبات على أبواب فئة خاصة أخرى وهي الصحافيون بعد الأحكام بالسجن التي صدرت بحق خمسة من رؤساء تحرير الصحف الحزبية والخاصة للمرة الأولى في تاريخ البلاد.






وبين المحلة حيث العمال الذاهبون مباشرة إلى ممارسة وسيلة ضغط فعالة على الحكومة، والقاهرة حيث النخب المعزولة في أبراج عاجية مختلفة الارتفاع والفخامة، تقع المشكلة السياسية التي تمر بها مصر الآن، إذ ينقطع الحبل السري الغليظ والمتين الذي يربط الصفوة بالجماهير، وتنقسم النخبة على نفسها، وتدخل السلطة بعديدها وعتادها على المسافة الفاصلة بين الطرفين، فتطوق احتجاجات النخبة سياسياً وأمنياً، وتشكك الناس في نية وارتباطات قادة أحزاب المعارضة ونشطاء المجتمع المدني وطلائع المثقفين المغبونين من استشراء الفساد، وسطوة الاستبداد الذي يتراوح بين نعومة كاذبة وخشونة ظاهرة.






وحققت السلطة نجاحاً لافتاً في احتواء هذه الاحتجاجات وحصارها، إلى حين، وتمكنت من تفريغ الضغوط الخارجية من مضمونها، فاستجابت لفظياً وشكلياً لبعض مطالب المحتجين، فتركت الصحافة تكتب ما تشاء، وعدّلت الدستور، وسمحت بقدر من النزاهة في المرحلتين الأولى والثانية من الانتخابات التشريعية التي أجريت في أواخر عام 2005، وتراجعت عن فرض عقوبة غليظة على بعض كبار القضاة، وتركت «كفاية» وأخواتها تنظم تظاهرات محدودة في مناطق عدة من العاصمة وخارجها، ثم عادت السلطة، بعد أن خفّت الضغوط الخارجية عليها، لتسترد كل ما قدمته في اتجاه الإصلاح السياسي، بل لتخصم من الرصيد الإيجابي الذي حققته الحركة الوطنية في نحو ربع قرن، فعادت الأمور أسوأ مما كانت عليه قبل سنوات الاحتجاج، إذ حل «قانون الإرهاب» محل «قانون الطوارئ»، وجرّحت مواد الدستور التي تنتصر للحريات العامة والخاصة، والتي كانت أفضل ما في هذا الدستور الذي رأى النور عام 1971، وسحبت الدولة التزاماتها بتغيير كل نص يتضمن لفظ «الاشتراكية» وكل نص يضمن للطبقات الفقيرة والمهمشة حقوقاً مؤكدة، وتم تفصيل بعض المواد على سيناريو الـ «توريث» وإبعاد جماعة «الإخوان المسلمين» عن تحقيق هدفها بالوصول إلى الحكم أو على الأقل حيازة وضع أفضل مما هي عليه الآن.






وإذا أمعنا النظر في الأسباب التي أدت إلى إخفاق هذه الاحتجاجات في إحداث أي اختراق سياسي، يمكننا تحديدها في النقاط الآتية:






1- الهوة الكبيرة بين أجندة الصفوة وأجندة الجماهير. فالأخيرة تبدو معنية أكثر باحتياجاتها في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمتواصلة التي تعيشها مصر، والتي أدت إلى انهيار الطبقة الوسطى. أما النخبة فانحازت في نضالها إلى قضايا الإصلاح السياسي، متمثلة في تغيير الدستور وتمكين أحزاب المعارضة من العمل وتوسيع الحريات العامة. ومعطيات التاريخ المصري تقول بجلاء إن المصريين يتنازلون في بعض الأحيان عن الانشغال بشؤون الحكم لحساب الاهتمام بمشاكلهم الاجتماعية الآنية، ولذا اكتسبوا قدرة فريدة في إدارة أحوالهم وظروفهم اليومية بعيداً من السلطان، فإن جار الأخير على معاشهم أو فشل في حمايتهم من أي اعتداء خارجي وجرح كبرياءهم الوطني يهبون في جسارة لمقاومته، وهي مسألة بدت جلية في تظاهرات 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، التي قامت على خلفية رفع أسعار الخبز، وقبلها التظاهرات المستمرة لمطالبة الرئيس الراحل أنور السادات باستعادة سيناء التي احتلتها إسرائيل عام 1967.






2 - فقدان ثقة الجماهير في النخبة السياسية والفكرية، بعد أن وضعت عقلها وإمكاناتها في خدمة النظام الحاكم سنوات عدة، ووقعت له صكاً على بياض حين كان متوعكاً إثر الهجمات المسلحة للمتطرفين الإسلاميين التي استمرت من 1988 حتى 1997، فلما استعاد النظام عافيته استدار إلى النخبة ليقوض أركانها، ويستخدم تنازلاتها في تشويه صورتها أمام الناس، والضغط عليها، وحصارها بحيث لا يبقى أمامها سوى خيارين، إما الانصياع والسير في ركاب السلطة، أو الاكتفاء بمراقبة ما يجري. واستغلت السلطة بعض رجال الأحزاب والمجتمع المدني إلى مرتزقة، لرمي الجميع بالارتزاق، والمتاجرة بالشعارات والأفكار ومصالح الناس.






3 - غياب الوسائط السياسية الفاعلة، فأحزاب المعارضة تحولت إلى جزء من النظام، يضفي عليه تعددية شكلية، والنقابات تم نزع السياسة عنها، والرموز السياسية والاجتماعية تم إبعادها بانتظام، ومنهجية مدروسة، فكلما ظهر رجل في عين الناس، وصارت له مكانة عالية ومثّل قيمة كبيرة، تم تقليص نفوذه، وحجبه عن الأضواء، وأدى هذا إلى تغييب القيادات السياسية البديلة، التي بوسعها أن تحظى بثقة الناس، تحركهم في الوقت المناسب، أو تحول احتجاجاتهم إلى طاقة إيجابية، تثمر اختراقاً سياسياً من أي نوع.






4 - تمتلك الدولة جهازاً أمنياً متضخماً، يتكون مما يربو على مليون وربع المليون من جنود الأمن المركزي، إلى جانب جهاز الشرطة العادي، ومئات الآلاف من المخبرين والمتعاونين مع الأمن في مختلف المواقع والمؤسسات والهيئات، وهي عملت على إضفاء طابع أمني على الكثير من الخدمات.






5 - تحكّم السلطة في المفاصل الأساسية للسياسات العامة على اختلاف أنواعها ودرجاتها، من خلال السيطرة على موارد الدولة وموازنتها، في ظل خلط واضح بين «النظام» و «الدولة». وهذا الوضع مكّن السلطة من تحويل الموارد الاقتصادية إلى موارد سياسية عبر شراء الولاء وتمويل الحملات الانتخابية للأتباع وربط المواطن البسيط بالنظام، عبر المنح والمنع والوعد والوعيد، وعلى رغم تطبيق برنامج التخصيص في مصر فإن سيطرة النظام على المال العام لم تتراجع، وتحكمه في كل العمليات التشريعية والمالية والاجتماعية المرتبطة بالتحرر الاقتصادي وانتقاء القائمين عليه لم تتراجع.






6 - ضعف بنية الحركات الاجتماعية الجديدة، إذ سيطرت عليها العفوية، وغابت عن معظمها الأطر الفكرية الراسخة والعميقة.






7 - انتهازية الخارج في تعامله مع الزخم الذي أخذته المطالبة بالإصلاح في مصر خلال السنوات الأخيرة. ففي البداية استفادت الحركة الوطنية المصرية من الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على النظم العربية من أجل إصلاح ذاتها، وعلى رغم أن الغالبية الكاسحة من المنتمين لهذه الحركة يؤمنون بأن ما يدفع أميركا إلى اتخاذ مثل هذا الموقف هو مصالحها البحتة، فإن الجميع استفادوا من مراعاة النظام المصري لعدم إغضاب واشنطن، والاستجابة الموقتة والجزئية لضغوطها، حين سمح النظام بنزاهة نسبية في الانتخابات الأخيرة، وترك «كفاية» وغيرها ينظمون التظاهرات والاحتجاجات التي رفعت سقف المطالب السياسية وكسرت كل الخطوط الحمر تحت شعار «لا للتمديد... لا للتوريث». لكن الولايات المتحدة لم تلبث أن تراجعت عن ضغوطها في سبيل الإصلاح حين وجدت أنه سيؤدي إلى وصول «الإسلاميين» إلى السلطة في أغلب البلدان العربية، فانقض النظام المصري على كل خطوة اتخذها إلى الأمام، لفظاً وشكلاً، وأعاد الأمور إلى نقطة الصفر بل إلى ما هو أدنى منها.






وهذه الأسباب ليست قدراً، وإمكان تلافيها وارد، لا سيما مع بعض النجاح الجزئي الذي حققته احتجاجات العمال والفلاحين والمهمشين. وما دامت الأسباب والدوافع التي تؤدي إلى الاحتجاج قائمة فإن عودة المصريين إلى التظاهر من جديد تبدو أمراً حتمياً، فإن تلافوا كل ما يقود إلى إخماد فورتهم وإطفاء طاقتهم فإن الخرق قد يتسع في المرات المقبلة، ومن ثم تثمر الاحتجاجات عن شيء حقيقي وملموس لمصلحة الناس.